الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
وذكر قصة إبراهيم عليه السلام بعد قصة نوح لأنه كآدم الثالث بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين بعده لأنهم من ذريته إلا لوطًا وهو نزلة ولده عليهما السلام، ويزيد حسن الإرداف أن نوحًا نجاه الله تعالى من الغرق وإبراهيم نجاه الله تعالى من الحرق.
فأول ما ظهر كذب ذلك بقتل الأمين بشارع باب الأنبار فقال بعض الشعراء: ثم مات فيها جماعة من الخلفاء كالواثق. والمتوكل. والمعتضد. والناصر. وغيرهم إلى أمور أخر لا تكاد تحصى أجمعوا فيها على حكم وتبين كذبهم فيه، على أنه قد يقال لهم: المؤثر في السعود والنحوس ونحوهما هل هو الكوكب وحده أو البرج وحده أو الكوكب بشرط حصوله في البرج؟ فإن قالوا بأحد الأمرين الأولين لزمهم دوام الأثر لدوام المؤثر، وإن قالوا بالثالث لزمهم القول باختلاف البروج في الطبيعة وإلا لاتحدت آثار الكوكب فيها وكلهم مجموعون على أن الفلك بسيط لا تركيب فيه، والتزام التركيب من طبائع مختلفة ينافي قولهم بامتناع الانحلال.وزعم بعضهم أنها تفعل ما تفعل بالاختيار يستدعي إلغاء أمر الاتصال والانفصال والمقارنة والهبوط ونحو ذلك؛ وكون ما ذكر شرطًا للاختيار لا يخفى حاله، والقول بأنها تستدعي من حيث طبيعة أشعتها التسخين مثلًا يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها شخص غاية الخير والأفعال الحميدة وآخر غاية الشر والأفعال الخبيثة فلابد لهذا الاختلاف من موجب غير التسخين، وأيضًا هم يقولون: جميع الحوادث الكونية مستند إلى الكواكب وحديث التسخين والتبريد واستلزامهما اختلاف أفعال النفس لا يتم به هذا الغرض، وذكر الإمام الرازي عليه الرحمة أن المثبتين لعلم الأحكام والتأثيرات أي من الإسلاميين احتجوا من كتاب الله تعالى بآيات وهي أنواع، الأول: الآيات الدالة على تعظيم الكواكب فمنها قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ الجوار الكنس} [التكوير: 15، 16] وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تصير راجعة تارة ومستقيمة أخرى، ومنها قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ واقع النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76] وقد صرح سبحانه بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرفها، ومنها قوله تعالى: {والسماء والطارق وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق النجم الثاقب} [الطارق: 1-3] قال ابن عباس: الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السموات السبع، ومنها قوله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والامر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54] فقد بين سبحانه إلهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره، النوع الثاني: ما يدل على وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كقوله سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16] النوع الثالث: الآيات الدالة على أن لها تأثيرًا في هذا العالم كقوله تعالى: {فالمدبرات أَمْرًا} [النازعات: 5] وقوله تعالى: {فالمدبرات امرًا} [الذاريات: 4] وقوله تعالى: {فالمقسمات أمرا} [الذاريات: 4] قال بعضهم المراد هذه الكواكب.الرابع: الآيات الدالة على أنه تعالى جعل حركات هذه الأجرام وخلقها على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم كقوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} [يونس: 5] وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} [الفرقان: 61].النوع الخامس: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تمسك بعلم النجوم فقال سبحانه: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89] السادس: أنه تعالى قال: {لَخَلْقُ السموات والأرض *أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] ولا يكون المراد كبر الجثة لأن كل أحد يعلمه فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف، وقال سبحانه: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض *رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} [آل عمران: 191] ولا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البعوضة ودلالة حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية عليه لأن الحياة لا يقدر عليها غيره تعالى وجنس التركيب يقدر عليه الغير فلما خصها سبحانه وتعالى بهذا التشريف المستفاد من قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} [آل عمران: 191] علمنا أن في تخليقها أسرارًا عالية وحكمًا بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ص: 27] ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم لأن كونها دالة على الافتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز محدث وكل محدث مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أمر ثابت لها لذواتها وأعيانها وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل فلم يمكن حمل الآية على هذا الوجه فوجب حملها على الوجه الذي ذكر.النوع السابع: روي أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي على أستاذه فدخل عليهم واحد من المتفقهة فقال: ما تقرءون؟ فقال عمر: نحن في تفسير آية من كتاب الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بنيناها وزيناها وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج.الثامن: أن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع تعالى بقوله: {رَبّيَ الذي يُحْىِ وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال له نمروذ: أتدعي أنه يحيي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر أولًا بواسطتها فإن ادعيت الأول فذلك مما لا تجده البتة لأن كل ما يحدث في هذا العالم فهو بواسطة العناصر والحركات الفلكية وإن ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل مني ومن كل أحد وهو المراد بقوله: {أنا أحي وأميت} [البقرة: 258] ثم إن إبراهيم عليه السلام لم ينازع في كون هذه الحوادث السفلية مرتبطة بالحركات الفلكية بل أجاب بأن الله تعالى هو المبدأ لتلك الحركات فيكون الفعل منه سبحانه حقيقة والواحد منا لا يقدر على تحريك الأفلاك على خلاف التحريك الإلهي وهذا هو المراد بقوله: {فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] وإذا عرفت نهج الكلام في هذا الباب عرفت أن القرآن العظيم مملوء من تعظيم الأجرام الفلكية وتشريف الكرات الكوكبية، وأما الأخبار فكثيرة منها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهي عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما عند قضاء الحاجة، ومنها أنه لما مات ولده صلى الله عليه وسلم إبراهيم انكسفت الشمس فقال: الناس إنما انكسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة والسلام:«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» ومنها ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا» ومن الناس من يروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافروا والقمر في العقرب» ومنهم من يرويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وإن كان المحدثون لا يقبلونه، وأما الآثار فكثيرة أيضًا فعن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلًا أتاه آخر الشهر فقال: أريد الخروج في تجارة فقال: تريد أن يمحق الله تعالى تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج.وعن عكرمة أن يهوديًا منجمًا قال له ابن عباس: ويحك تخبر الناس بما لا تدري فقال: إن لك ابنًا في المكتب يحم غدًا ويموت في اليوم العاشر فقال ابن عباس: ومتى تموت أنت؟ قال: على رأس السنة ثم قال له: ولا تموت أنت حتى تعمى فكان كل ذلك. وعن الشعبي قال: «قال أبو الدرداء لقد فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا ونحن ندعي فيه علما» وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة، وجاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام وذلك أنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل بيت وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم فأكرمه الله تعالى بهذا العلم فكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم نظر في النجوم فعرفه.وعن ميمون بن مهران أنه قال: إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة، وروي عن الشافعي أنه كان عالمًا بالنجوم، وجاء لبعض جيرانه ولد فحكم له بأن هذا الولد ينبغي أن يكون على عضوه الفلاني خال صفته كذا وكذا فوجد الأمر كما قال، وروى ابن إسحاق أن المنجمين أخبروا فرعون أنه سيجيء ولد من بني إسرائيل يكون هلاكه على يده. وكذا كان كما قص الله تعالى: {يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ} [القصص: 4] وأما المعقول فهو أن هذا العلم ما خلت عنه ملة من الملل ولا أمة من الأمم ولم يزالوا مشتغلين به معولين عليه في معرفة المصالح، ولو كان فاسدًا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه، والتجارب في هذا الباب أكثر من أن تحصى اه كلامه.ولعمري لقد نثر الكنانة ونفض الجعبة واستفرغ الوسع وبذل الجهد وروج وبهرج وقعقع وفرقع ومن غير طحن جعجع وجمع بين ما يعلم بالضرورة أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وما يعلم بالضرورة أنه خطأ في تأويل كلام الله تعالى ومعرفة مراده سبحانه، ولا يروج ما ذكره إلا على مفرط في الجهل أو مقلد لأهل الباطل من المنجمين {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} فاسمع لما نقول: ما ذكره من الاستدلالات أو هي من بيوت العناكب وأشبه شيء بنار الحباحب؛ فأما الاستدلال بقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس الجوار الكنس} [التكوير: 15، 16] ففيه أنا لا نسلم أن هناك قسمًا بالنجوم فقد روي عن ابن مسعود أن المراد بالخنس بقر الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره ابن جبير، وحكى الماوردي أنها الملائكة، وإذا سلم ذلك بناءً على أنه الذي ذهب إليه الجمهور فأي دلالة فيه على التأثير وقد أقسم سبحانه بالليل والنهار والضحى ومكة والوالد وما ولد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات والسابقات والتين والزيتون وطور سينين إلى غير ذلك فلو كان الإفسام بشيء دليلًا على تأثيره لزم أن يكون جميع ما أقسم به تعالى مؤثرًا وهم لا يقولون به وإن لم يكن دليلًا فالاستدلال به باطل، ومثله في ذلك الاستدلال بقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ واقع النجوم} [الواقعة: 75] وقد فسر غير واحد مواقع النجوم نازل القرآن ونجومه التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة، وكذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {والسماء والطارق} [الطارق: 1].وأما قوله تعالى: {فالمدبرات أَمْرًا} [النازعات: 5] فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين وعلماء التفسير أنه إقسام بالنجوم فهذا ابن عباس. وعطاء. وعبد الرحمن بن سابط. وابن قتيبة. وغيرهم قالوا: إن المراد بالمدبرات أمرًا الملائكة حتى قال ابن عطية: لا أحفظ خلافًا في ذلك، وكذلك {المقسمات أمْرًا} [الذاريات: 4] فتفسيرهما بالنجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وهو تفسير بالرأي والعياذ بالله تعالى، وأما وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كما في الآية التي ذكرها فليس ذلك لتأثير الكواكب ونحوستها بحسب ما يزعم المنجم بل لأن الله تعالى عذب أعداءه فيها فهي أيام مشائيم على الأعداء فوصف تلك الأيام بنحسات كوصف يوم القيامة بأنه عسير على الكافرين.وكذا يقال في قوله تعالى: {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ} [القمر: 19] وليس {مُّسْتَمِرٌّ} فيه صفة {يَوْمٍ} بل هو صفة {نَحْسٍ} أي نحس دائم لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها، والقول بأنه صفة {يَوْمٍ} وأن المراد به يوم أربعاء آخر الشهر وأنه نحس أبدًا غلط ولا يكاد المنجم يزعم نحوسة يوم أربعاء آخر الشهر ولو شهر صفر أبدًا بل كثيرًا ما يحكم بغاية سعده حسا تقتضيه الأوضاع الفلكية فيه بزعمه.وأما استدلاله بالآيات الدالة على أنه سبحانه وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فمن الطرائف إذ الأليق لو صح زعم المنجم أن يذكر في الآية ما تقتضيه النجوم من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والعلوم والمعارف وسائر ما في العالم من الخير والشر فإن العبرة بذلك أعظم من العبرة جرد الضياء والنور ومعرفة عدد السنين والحساب، وأما ما ذكره عن إبراهيم عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال: {إِنّى سَقِيمٌ} فسقيم جيدًا وقد سمعت ما قيل في الآية، ولا ينبغي أن يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث ولو فتح هذا الباب على الأنبياء عليهم السلام لاحتمل أن يكون جميع أخبارهم عن المستقبلات من أوضاع النجوم لا من الوحي وهو كما ترى، وأما الاستدلال بقوله تعالى: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] وإن المراد به كبر القدر والشرف لا كبر الجثة ففي غاية الفساد فإن المراد من الخلق هاهنا الفعل لا المفعول، والآية للدلالة على المعاد أي إن الذي خلق السموات والأرض وخلقهما أكبر من خلقكم كيف يعجزه أن يعيدكم بعد الموت، ونظيرها قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81] وأين هذا من بحث أحكام النجوم وتأثيراتها، ومثل هذا الاستدلال بقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} [آل عمران: 191] فإن خلق السموات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وحكمته وعلمه وانفراده بالربوبية ومن سوى بينهما وبين البقة فقد كابر، ولذا ترى الأشياء الضعيفة كالبعوضة والذباب والعنكبوت إنما تذكر في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الاحتقار والضعف ولا تذكر في سياق الاستدلال على عظمة ذي الجلال جل شأنه، على أن الآية لو دلت على أن للكواكب تأثيرًا لدلت على أن للأرض تأثيرًا أيضًا كالكواكب وهم لم يقولوا به، وما ذكره بعد من أن دلالة حصول الحياة في أبدان الحيوانات أقوى من دلالة السموات والأرض إلى آخر ما قال في حيز المنع، ونظير ذلك الاستدلال بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} [ص: 27] فإنه لا يدل أيضًا على أن للكواكب تأثيرًا، وغاية ما تدل عليه هذه الآية ونظائرها أن تلك المخلوقات فيها حكم ومصالح وليست باطلة أي خالية عن ذلك، ونحن نقول بما تدل عليه ولكن لا نقول بأن تلك الحكم هي الإسعاد والإشقاء وهبة الأعمار والأرزاق إلى غير ذلك مما يزعمه المنجمون بل هي الآثار الظاهرة في عالم الطبيعة على ما سمعت ونحوها كالدلالة على وجود الصانع وكثير من صفاته جل شأنه التي ينكرها الكفرة ولا مانع من أن يقال خلق الله تعالى كذا لتظهر دلالته على كذا، ولا تتعين العبارة التي ذكرها على أنه لا بأس بها عند تدقيق النظر، ولعل ما قاله من فروع كون الماهيات غير مجعولة والكلام فيه شهير، وأما ما ذكره عن عمر بن الخيام فهو على طرف الثمام، وأما ما ذكره في محاجة إبراهيم عليه السلام وتقرير المناظرة على ما قرره فلم يقل به أحد من المفسرين سلفهم وخلفهم بل قد يقطع بأنه لم يخطر بقلب المشرك المناظر وما هو إلا تفسير بالرأي والتشهي نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأما استدلاله بما روي من نهيه عليه الصلاة والسلام عن استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة فبعيد عن حاجته بل لا دلالة للنهي المذكور على تأثير الكواكب الذي يزعمونه وإلا لدل النهي عن استقبال الكعبة عند قضاء الحاجة على أن لها تأثيرًا، على أن بعض الأجلة قد ذكر أن ذلك النهي لم ينقل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا متصل ولا مرسل وإنما قال بعض الفقهاء في آداب التخلي ولا يستقبل الشمس والقمر فقيل لأن ذلك أبلغ في التستر، وقيل: لأن نورهما من نوره تعالى، وقيل: لأن اسم الله تعالى مكتوب عليهما.وأما ما ذكر من حديث كسوف الشمس يوم موت إبراهيم وقوله عليه الصلاة والسلام ما قال فصحيح لكن لا يدل على ما يزعمه المنجمون، وصدر الحديث يدل على أن الشمس والقمر آيتان وليسا بربين ولا إلهين ففيه إشارة إلى نفي التصرف عنهما، وفي قوله عليه الصلاة والسلام لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قولان، أحدهما: أن موت أحد وحياته لا يكونان سببًا لانكسافهما، وثانيهما: أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة وإنما ذلك تخويف من الله تعالى لعباده أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة بالحساب لطلوع الهلال وإبداره وسراره، فأما سبب كسوف الشمس فتوسط القمر بين جرم الشمس وأبصارنا كسحابة تمر تحتها فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا كل الشمس وإن كان له عرض فبقدر ما يوجبه عرضه، وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير ممنوعًا من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض المخروط في ممره فقد يقع كله في المخروط وقد يقع بعضه فيه ويبقى بعضه الآخر خارجًا إلى آخر ما قرر في موضعه وليس في الشرع ما يأباه والوقوف على وقت الكسوف والخسوف ومقدارهما أمر سهل ولا يلزم من صدق المنجم في ذلك صدقه فيما يزعم من التأثيرات وما الأخبار بهما إلا كالأخبار بوقت طلوع الشمس في يوم كذا في ساعة كذا وكالأخبار بوقت الهلال والإبدار والسرار، ثم إنا لا ننكر أن الله تعالى يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببًا لذلك ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى والصلاة والعتاقة والصدقة لأن هذه الأشياء تكون سببًا لدفع موجب الكسف الذي جعله الله تعالى سببًا لما جعله فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر عليه الصلاة والسلام بدفع موجبه بهذه العبادات، ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قامت به أو يقلله أو يخففه فمن فرغ إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذي جعل الله تعالى الكسوف سببًا له أو بعضه، ولهذا قل ما يسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف ويسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدًا.وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس في عهده قام فزعًا مسرعًا يجر رداءه ونادى في الناس الصلاة جامعة وخطبهم بتلك الخطبة البليغة وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة وما ذلك إلا لكونه عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله تعالى وبأمره وشأنه وتصريفه أمور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للأمة وأشفقهم على العباد ولم يبين لهم عليه الصلاة والسلام أسباب الكسوفين وحسابهما لأن الجهل بذلك لا يضر والعلم به لا ينفع نفع العلم بما جاءت به الرسل عليهم السلام.وقد يقال: الأمر بالصلاة عندهما كالأمر بالصلاة عند طلوع الفجر والغروب والزوال مع تضمن ذلك رفع موجبهما الذي جعلهما الله تعالى سببًا له، ومن الناس من أنكر أن يكون الكسوفان سببين لشيء من البلاء أصلًا وأن سبب حصولهما ليس ما أطال الكلام فيه المنجمون ومر بعضه بل السبب هو تجلي الله تعالى عليهما لما أخرجه ابن ماجه في سننه. والإمام أحمد. والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال: «انكسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فزعًا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فلم يزل يصلي حتى انجلت ثم قال: إن ناسًا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله تعالى لشيء من خلقه خشع له وأن الأمر بالصلاة لظهور آثار تجلي الجلال في هذين الجرمين العظيمين أو هو كالأمر بالصلاة عند غروب الشمس وطلوع الفجر مثلًا وحكمته كحكمته والقائلون بهذا مكابرون للفلاسفة في أشياء لا ينبغي المكابرة فيها ولعلها تضر بالدين وتصير سببًا لطعن الملحدين فيكابرون في كون الأفلاك مستديرة والأرض كرية وأن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وأن الكسوف القمري عبارة عن انحاء نور القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أن نوره مقتبس منها وأن الكسوف الشمسي عبارة عن وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها وإثبات القوى والطبائع والأفعال والانفعالات إلى غير ذلك مما تقوم عليه الأدلة اليقينية ولا تعارضه النصوص الشرعية القطعية، وما ذكروه من الحديث تعقبه حجة الإسلام الغزالي فقال: إن زيادة فإن الله إلخ لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أولت بالأدلة العقلية التي لم تبلغ في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك اه وليس الأمر في هذه كما قال من عدم الصحة فإن إسنادها لا مطعن فيه، فابن ماجه يروي الحديث بهذه الزيادة عن محمد بن المثنى.وأحمد بن ثابت. وحميد بن الحسن وهم يروونه عن عبد الوهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير وكل هؤلاء ثقات حفاظ، نعم الحديث الخالي عنها رواه بضعة عشر صحابيًا منهم علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وعائشة. وأسماء أختها. وأبي بن كعب. وجابر بن عبد الله. وسمرة بن جندب. وقبيصة الهلالي. وعبد الله بن عمرو، ومن هنا خاف بعض الأجلة أن تكون مدرجة في الحديث لكنه خلاف الظاهر وحينئذٍ يقال: إن كسوف الشمس والقمر يوجب لهما ضعف سلطانهما وبهائهما وذلك يوجب لهما من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله سبحانه ما يكون سببًا لتجليه عز وجل لهما، ولا يستنكر أن يكون تجلي الله سبحانه لهما في وقت معين كما يدنو سبحانه من أهل الموقف عشية عرفة وكما ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا عند مضي نصف الليل فيحدث لهما ذلك التجلي خشوعًا آخر ليس هو الكسوف فإنه إنما حدث بالسبب الذي عرفت ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى إذا تجلى لهما انكسفا بل قال فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له. وفي رواية الإمام أحمد «إذا بدا الله لشيء من خلقه خشع له» فههنا خشوعان خشوع أوجبه كسوفهما الحادث من وضعهما الخاص وخشوع أوجبه تجليه تعالى لهما لذلك الخشوع الذي أوجبه الكسوف، وهذا توجيه لطيف المنزع يقبله العقل المستقيم والفطرة السليمة إن شاء الله تعالى. وأما استدلاله بحديث ابن مسعود ففيه على ما قيل أن الحديث لو ثبت لكان حجة عليه لا له إذ لو كان علم النجوم حقًا لم يأمر صلى الله عليه وسلم بالإمساك عند ذكر النجوم فالظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك إلا لأن الخوض في ذلك خوض فيما لا علم للخائض به فتأمل.وأما حديث النهي عن السفر والقمر في العقرب فصحيح من كلام المنجمين دون رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، وروايته عن علي كرم الله تعالى وجهه كذب أيضًا والمشهور عنه خلاف ذلك كما سمعت في قصة خروجه لقتال الخوارج، وأما ما احتج به من الأثر عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلًا أتاه إلخ فلا يعلم ثبوته عنه رضي الله تعالى عنه، والكذابون كثيرًا ما ينفقون سلعهم الباطلة بنسبتها إليه أو إلى أهل بيته، ثم لو صح عنه فليس فيه تعرض لثبوت أحكام النجوم بوجه، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» ونسبة أول الشهر إليه كنسبة أول النهار إليه، وكان صخر راوي الحديث إذا بعث تجارة له بعثها في أول النهار فأثرى وكثر ماله ولا يبعد أن يكون أول السنة كأول النهار أيضًا فللأوائل مزية القوة كما هو مشاهد في الشباب والشيوخة، ولله تعالى تجليات في الأزمنة والأمكنة والأشخاص وليس ذلك من تأثير الكواكب في شيء، ومثل هذا يقال فيما ذكره الكرماني وقد مر، وأما ما ذكره عن اليهودي الذي أخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا نسلم صحته، وإن سلم ذلك فهو من جنس إخبار الكهان بشيء من المغيبات، وقد أخبر ابن الصياد النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر فقال عليه الصلاة والسلام له «إنما أنت من إخوان الكهان» وعلم مقدمة المعرفة لا يختص بما ذكر المنجمون بل له عدة أسباب يصدق الحكم معها ويكذب منها الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر وضرب الحصى والخط والكتف والكشف المستند إلى الرياضة وهو كشف جزئي عن بعض الحوادث ويشترك فيه المؤمن والكافر ومنها غير ذلك، وللعمال في البحر والسعاة ونحوهم في البلا علامات يعرفون بها أوقات المطر والصحو والبرد والريح وغيرها وقلما يخطؤون في أخبارهم بل صوابهم في ذلك أكثر من صواب المنجم.وأما ما ذكره من حديث أبي الدرداء فالمحفوظ فيه «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنا وما طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علمًا» وفيه روايات أخر صحيحة أيضًا وكلها ليس فيها وليست الكواكب إلخ فهو من أعظم الأدلة على بطلان دعوى المنجمين إذ لم يذكر عليه الصلاة والسلام من أحكام النجوم شيئًا البتة وقد علمهم علم كل شيء حتى الخرأة، وأما قوله إنه جاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام إلخ فكذب وافتراء على آدم عليه السلام، وقد عمل هذا الكاذب المفتري بالمثل السائر إذا كذبت فأبعد شاهدك، ونحوه ما روي عن ميمون بن مهران، وأما ما نسب إلى الشافعي فهو بعض من حكاية ذكرها أبو عبد الله الحاكم فيما ألفه في مناقبه والحكايات التي ذكرت عنه في أحكام النجوم ثلاث.احداها قال الحاكم: قرئ على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي وأكثر ظني أني حضرته تنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن العباس الأزدي في آخرين قالوا ثنا محمد بن أبي يعقوب الجوال الدينوري ثنا عبد الله بن محمد البلوي حدثني خالي عمارة بن زيد قال: كنت صديقًا لمحمد بن الحسن فدخلت معه يومًا على هارون الرشيد فسأله ثم إني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول: إن محمد بن إدريس يزعم أنه للخلافة أهل قال فاستشاط هارون من قوله غضبا ثم قال: على به فلما مثل بين يديه أطرق ساعة ثمرفع رأسه إليه فقال: أيها قال الشافعي: ما أيها يا أمير المؤمنين أنت الداعي وأنا المدعو وأنت السائل وأنا المجيب فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها إلى أن قال: كيف علمك بالنجوم؟ قال: أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائي والناري وما كانت العرب تسميه الأنواء ومنازل النيرين والاستقامة والرجوع والنحوس والسعود وهيآتها وطبائعها وما استدل به في بري وبحري وأستدل في أوقات صلاتي وأعرف ما مضي من الأوقات في إمسائي وأصباحي وظعني في أسفاري ثم ساق العلوم على هذا النحو، ومن له علم بالمنقولات يعلم أن هذه الحكاية كذب مختلق وافك مفتري على الشافعي والبلاء فيها من عند محمد بن عبد الله البلوي فإنه كذاب وضاع وهو الذي وضع رحلة الشافعي وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد ولم ير الشافعي أبا يوسف ولا اجتمع به قط وإنما دخل بغداد بعد موته ويشهد بكذبها أنها تدل على أن محمدًا وشى بالشافي إلى الرشيد وأراد قتله ومحمد أجل من أن ينسب إليه ذلك وتعظيمه للشافعي ومحبته إياه هو المعروف كتعظيم الشافعي له وثنائه عليه، وفيها شواهد أخر على الكذب يعرفها العالم بالمنقول إذا اطلع عليها كلها، وثانيتها وهي التي أخذت منها ما ذكرها الإمام، قال الحاكم: أخبرنا أبو الوليد الفقيه قال حدثت عن الحسن بن سفيان عن حرملة: قال: كان الشافعي يديم النظر في كتب النجوم وكان له صديق وعنده جارية قد حبلت فقال: إنها تلد إلى سبعة وعشرين يومًا ويكون في فخذ الولد الأيسر خال أسود ويعيش أربعة وعشرين يومًا ثم يموت فكان الأمر كما قال فاحرق بعد ذلك تلك الكتب وما عاود النظر في شيء منها، وهذا الإسناد رجاله ثقات لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد عن الحسن بن سفيان أو فيمن حدث الحسن عن حرملة، ويدل على كذب الحكاية أنها لو صحت لوجب أن تثنى الخناصر على هذا العلم وتشد به الأيدي لا أن تحرق كتبه ولا يعاود النظر في شيء منها، وإن الطالع عند المنجمين طالعان طالع مسقط النطفة وهو الطالع الأصلي الذي يزعمون دلالته على وقت الولادة والحكاية لم تتضمن أن الشافعي نظر فيه ولو كان لتضمنته وطالع الولادة وإخبار الشافعي قبلها ضرورة أنه قال: إنها تلد إلى سبعة وعشرين يومًا، وثالثتها قال الحاكم: أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي أن زكريا بن يحيى الساجي حدثهم قال أخبرني أحمد بن محمد بن بنت الشافعي قال سمعت أبي يقول: كان الشافعي وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه فجلس يومًا وامرأة تلد فحسب فقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا فولدت فكان كما قال فجعل على نفسه أن لا ينظر فيه أبدًا، وأمر هذه الحكاية كالتي قبلها فإن ابن بنت الشافعي لم يلق الشافعي ولارآه والشأن فيمن حدث بها عنه، وأيضًا طالع مسقط النطفة لم يؤخذ والخبر قبل تحقق طالع الولادة، ثم إن تحقق هذه الحكاية إن كان قبل تحقق الحكاية التي قبلها لم تكد تحقق وإن كان تحقق تلك قبل لم تكد هذه تحقق كما لا يخفى على المنصف، والذي صح عن الشافعي في أمر النجوم أنه كان يعرف ما كانت العرب تعرفه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطرقات وأما غير ذلك من الأحكام التي زعمها المنجمون فلا، وكان رضي الله تعالى عنه شديد الإنكار على المتكلمين مزريا بهم حكمه فيهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل فما تراه يرى في المنجمين الذين شاع هذيانهم وقبح عند ذوي العقول السليمة شأنهم، نعم كان له رضي الله تعالى عنه اليد الطولي في علم الفراسة وقد خرج إلى اليمن لجمع كتبه فجمع منها ما جمع وله فيها حكايات يقضي منها العجب، ولعل إخباره بأمر المولود لو صح من ذلك العلم والناقل لجهله أو لأمر آخر أسنده للنظر في أحكام النجوم وقال ما قال: وأما ما ذكر عن ابن إسحق من أن فرعون كان يقتل أبناء بني إسرائيل لأخبار المنجمين إياه بأنه سيولد لهم مولود يكون هلاكه على يده فهو كما قال بعض الأجلة من أخبار أهل الكتاب ومخالف لروايات أكثر المفسرين فإنهم أحالوا ذلك على إخبار الكهان.وروي بعضهم أن قومه أخبروه بأن بني إسرائيل يزعمون أنه يولد منهم مولود يكون هلاكه على يديه وفي أخبار الكهان ما هو أعجب من ذلك. ومنها خبرهم بظهور خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وانتشار أمره، ونحن لا ننكر علم تقدمة المعرفة بأسباب مفضية إلى مثل ذلك يختلف قوى الناس في إدراكها وتحصيلها وإنما كلامنا مع المنجمين في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التي يسندونها إليها، وأما ما ذكره في الاستدلال بالمعقول من أنه ما خلت عن هذا العلم ملة من الملل ولا أمة من الأمم وأنهم لم يزالوا مشتغلين به معولين في معرفة المصالح عليه إلى آخر ما قال ففرية من غير مرية، ويا عجبا من دعواه إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وهم يقولون إنما أسست أصوله وأوضاعه في زمن هرمس الهرامس يعنون به إدريس عليه السلام وهو بعد بناء العالم بكثير، وأيضًا قد رده كثير من الفلاسفة وجمع غفير من أساطين الإسلام حتى أنه قد ألف ما يزيده على مائة مصنف في رده وأبطاله، وقد قال أبو نصر الفارابي: اعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت الحار باردًا والبارد حارًا والسعد نحسا والنحس سعدًا والذكر أنثى والأنثى ذكرًا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطئ تارات، وقد زيف أمرهم ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة، وكذا أبو البركات البغدادي في كتاب التعبير له، هذا ما اختاره بعض المحققين في الرد على المنجمين وأعود فأقول: الذي أراه في هذا المقام ويترجح عندي من كلام العلماء الأعلام أن الله عز وجل لم يخلق شيئًا باطلًا خاليًا عن حكمة ومنفعة بل خلق الأشياء علويها وسفليها جليلها ودنيها مشتملة على حكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى وإن تفاوتت في أفرادها قلة وكثرة وخص كلا منها بخاصة لا توجد في غيرها مع اشتراك الكل في الدلالة على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته: فالاجرام العلوية مشتركة في هذه الدلالة مختص كل منها بخاصة وشأن الكواكب في خواصها وتأثيراتها كشأن النباتات والمعدنيات والحيوانيات في خواصها وتأثيراتها، فمنها ما خاصته في نفسه غير متوقفة على ضم شيء آخر إليه، ومنها ما خاصته متوقفة على ضم شيء آخر، ومنها ما إذا ضم إليه شيء أسقط خاصته، وأبطل منفعته ومنها ما يعقل وجه تأثيره ومنها ما لا يعقل، ومنها ما يؤثر في مكان دون مكان وزمان دون زمان، ومنها ما يؤثر في جميع الأزمنة والأمكنة إلى غير ذلك من الأحوال، وكونها زينة للسماء لا يستدعي نفي أنه يكون فيها منفعة أخرى على حد ما في الأرض فقد قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7] مع اشتمال الأزهار وغيرها على ما تعلم وما لا تعلم من المنافع، وكذلك كونها علامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر وكونها رجومًا للشياطين.ولا أقول ببساطة الأفلاك ولا ببساطة الكواكب ولا بانحصارها فيما يشاهد ببصر أو رصد ولا بذكورة بعض وأنوثة آخر إلى كثير مما يزعمه المنجمون، وأقول: إن الله تعالى أودع في بعضها تأثيرًا حسا أودع في أزهار الأرض ونحوها وانها لا تؤثر إلا باذنه عز وجل كما هو مذهب السلف في سائر الأسباب العادية وإن شئتفقل كما قال الأشاعرة فيها، وأنه لا يبعد أن يكون بعضها علامات لاحداثه تعالى أمورًا لا بواسطتها في أحد العاملين العلوي والسفلي يعرفها من يوقفه الله تعالى عليها من ملائكته وخواص عباده، وارتباط كثير من السفليات بالعلويات مما قال به الأكابر ولا ينكره إلا مكابر، ولا أنسب أثرًا من الآثار إلى كوكب بخصوصه على القطع لاحتمال شركة كوكب أو أمر آخر، نعم الظاهر يقتضي كثرة مدخلية بعض الكواكب في بعض الآثار كالقمر في مد البحار وجزرها فإن منها ما يأخذ في الازدياد حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الامتلاء ثم إنه يأخذ في الانتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر إلى المحاق ومنها ما يحصل فيه المد في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه كبحر فارس وبحر الهند وبحر الصين، وكيفيته إنه إذا بلغ القمر مشرقًا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع فإذا زال عن مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدًا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاه ثم يبتدئ الجزر ثانيًا ويرجع الماء كما كان، ومثل المد والجزر بحرانات الأمراض فإنها بحسب زيادة القمر ونقصانه على معنى كثرة مدخلية ذلك ظاهرًا فيها إلى أمور كثيرة، ولا أقول: إن لكوكب تأثيرًا في السعادة والشقاوة ونحوهما، ولا يبعد أن يكون كوكب أو كواكب باعتبار بعض الأحوال علامة لنحو ذلك يعرفها بعض الخواص، ولا وثوق بما قاله الأحكاميون وكل ما يقولونه ظن وتخمين لا دليل لهم عليه وهم فيما أسسوا عليه أحكامهم متناقضون وفي المذاهب مختلفون فللبابليين مذهب وللفرس مذهب ولأهل الهند مذهب ولأهل الصين مذهب وقد رد بعضهم على بعض وشهد بعض على بعض بفساد أصولهم ومبني أحكامهم فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيمو حارس ومانالارس قد حكموا حكمًا في الكواكب واتفقوا على صحته وأقام الناس على تقليدهم وبناء الأمر على ما قالوه أكثر من سبعمائة سنة فجاء من بعدهم خالد بن عبد الملك المروزي. وحسن صاحب الزيج المأموني. ومحمد بن الجهم. ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجدوهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن.ثم حدثت ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجدوهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن.ثم حدثت بعدهم بنحو ستين سنة طائفة أخرى زعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر فرد عليهم وبين خطاهم كما ذكره أبو سعيد شاذان المنجم في كتاب «أسرار النجوم» له وفيه قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم إنه يدل على التأنيث؟ فقال: هكذا قالوا قلت: فقد قالوا انه ليس بصادق اليبس لكنه بارد عفن ملتوي كل الأعراض الغائية توهم لا يكون شيء منها يقينيًا وإنما يكون توهم أقوى من توهم.ومن تأمل أحوال القوم علم أن ما معهم تفرس يصيبون معه ويخطؤون، ثم حدثت بعدهم طائفة أخرى بنحو سبعين سنة منهم أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر المعروف بالصوفي فرد على من قبله وغلطه وألف كتابًا بين فيه من الأغلاط ما بين وحمله إلى عضد الدولة ابن بويه فاستحسنه وأجزل ثوابه، ثم جاءت بعد نحو ثلاثين سنة طائفة أخرى منهم كوشيار الديلمي فألف المجمل في الأحكام وجهل فيه من يحتج للأحكام من الأحكاميين، وقال عن صناعة التنجيم: هي صناعة غير مبرهنة وللخواطر والظنون فيها مجال إلى أن قال: ومن المنفردين بعلم الأحكام من يأتي على جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فيظن أنها براهيم لجهله بطريق البرهان وطبيعته، ثم حدثت طائفة أخرى منهم منجم الحاكم بالديار المصرية المعروف بالفكري فوضع هو وأصحابه رصدًا آخر سموه الرصد الحاكمي فخالفوا فيه أصحاب الرصد الممتحن وبنوا أمر الأحكام عليه.ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الريحان البيروتي مؤلف كتاب «التفهيم إلى صناعة التنجيم» وكان بعد كوشيار بنحو أربعين سنة فخالف من تقدمه وأتي من مناقضاتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد صناعتهم وختم كتابه بقوله في الخبء والضمير ما أكثر افتضاح المنجمين فيه وما أكثر إصابة الزاجرين بما يستعمل من الكلام وقت السؤال ويرونه باديًا من الآثار والأفعال على السائل إلى آخر ما قال، ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي وكان بعد البيروتي بنحو ثمانين عامًا وكان رأسًا في الصناعة ومع هذا اعترف بأن قول المنجمين هذيان، ثم حدثت طائفة أخرى بالمغرب منهم أبو اسحق الزر قال وأصحابه وكان بعد أبي الصلت بنحو مائة سنة فخالف الأوائل والأواخر في الصناعتين الرصدية والأحكامية.وآخرما نعلم حدوثه زيج لالنت والقسيني وفيه من المخالفة لما قبله من الإزياح ما فيه. وقد ذكر فيه تقويم هرشل ومقدار حركته وهو كوكب سيار ظفر به هرشل أحد فلاسفة الإفرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله، وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم، والافرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله، وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم، والإفرنج على مهارة كثير منهم بعلم الرصد لا يقولون بشيء مما يقول به الأحكاميون الأوائل والأواخر ويسخرون منهم، وقد ذكر من يوثق به وجوهًا تدل على فساد ما بأيديهم من العلم وأنه لا يوثق به، الأول ان معرفة جميع المؤثرات الفلكية مما لا تتأتى، اما أولًا فلأنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة وإذا كان المرئى صغيرًا أو في غاية البعد يتعذر رؤيته فإن أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي به قوة البصر مثل كرة الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض أعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة كل منها كعطارد حجمًا فكيف ترى، ونفي هذا الاحتمال لا بدله من دليل ومع قيامه لا يحصل الجزم عرفة جميع المؤثرات، وان قالوا: جاز ذلك إلا أن آثار هذا الكوكب لصغره ضعيفة فلا تصل إلى هذا العالم، قلنا: صغر الجرم لا يوجب ضعف الأثر فقد أثبتم لعطارد آثارًا قوية مع صغره بالنسبة إلى سائر السيارات بل أثبتم للرأس والذنب وسهم السعادة وسهم الغيب آثارًا قوية وهي أمور وهمية، وأما ثانيًا فالمرصود من الكواكب المرئية أقل قليل بالنسبة إلى غير المرصود فمن أين لهم الوقوف على طبيعة غير المرصود؟ وأما ثالثًا فلأنه لم يحصل الوقوف على طبائع جميع المرصود أيضًا وقلما تكلموا في معرفة غير الثوابت التي من القدر الأول والثاني، وأما رابعًا فآلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث فما فوق ولا شك أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا ألف مرة أو أقلأو أكثر، ومع هذا التفاوت العظيم كيف الوصول إلى الغرض وقد قيل إن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل فإذا كان كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات؟ وأما خامسًا فبتقدير انهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها فهل وقفوا على طبائعها حال امتزاج بعضها ببعض والامتزاجات الحاصلة من طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية تبلغ في الكثرة إلى حيث لا يقدر العقل على ضبطها.وأما سادسًا فيقال: هب أنا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت فلا ريب أنه لا يمكننا معرفة الامتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعًا ان الاشكال السالفة را كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الاشكال الحاصلة في الحال، ولا ريب إنا نساهد أشخاصًا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان تحدث مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور، وذلك أن الأحوال السابقة في حق كل واحد تكون مخالفة للأحوال السابقة في حق الآخر وذلك يدل على أنه لا اعتماد على مقتضى طالع الوقت بل لابد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه فإنه را كانت تلك الطوالع دافعة، مقتضيات هذا الطالع الحاضر، وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه «الشفاء والنجاة» في إبطال هذا العلم، الثاني أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وان لم تضبط الدقيقة، وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة، ولا ريب بجهالة مقادير جميع الكواكب فكيف تضبط الآثار، الثالث فساد أصولهم وتناقض آرائهم واختلافهم اختلافًا عظيمًا من غير دليل ومتى تعارضت الأقوال وتعذر الترجيح فيما بينها لا يعول على شيء منها.الرابع أن أرضادهم لا تنفك عن نوع خلل وهي مبني أحكامهم، وقد صنف أبو علي بن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك ليس في وسع الإنسان دفعه وإِزالته وإصابتهم في أوقات الخسوف والكسوف مع ذلك الخلل لا تستدعي إصابتهم في غيرها معه، الخامس أنا نشاهد عالمًا كثيرًا يقتلون في ساعة واحدة في حرب وخلقًا كثيرًا يغرقون في ساعة واحدة مع اختلاف طوالعهم واقتضائها أحوالًا مختلفة عندكم وهذا يدل على عدم اعتبار ما اعتبرتموه أولًا، فإن قلتم: إن الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض فلعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل فكان الحكم، قلنا: هذا بعينه يبطل عليكم اعتبار طالع المولود فإن الطوالع بعده مختلفة كثيرة ولعل بعضها أقوى منه فلا يفيد اعتباره شيئًا، السادس ان العقل لا مساغ له في اقتضاء كوكب معين أو وضع معين تأثيرًا خاصًا والتجربة على قصورها معارضة بتجربة اقتضت خلافها إلى غير ذلك من الوجوه، وأبو البركات البغدادي وإن زيف ما هم عليه إلا أنه يقر بقبول بعض الأحكام فإنه قال بعد ذكر شيء من أقوالهم التي لا دليل لهم عليها: وهذه أقوال قالها قائل فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتربها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم بحسبها الحاكمون بجيد ورديء وسلب وإيجاب وسعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى كذب فيه بل عذروه وقالوا: هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء، ولعمر الله تعالى أنه لو أحاط به علمًا صادقًا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضًا ويتوهم وهمًا فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه، والذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء. غير هذه الخرافات التي لاأصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقية كالقرانات والانتقالات والمقابلة وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وام يعرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك، وكأني أريد أن أختصر الكلام هاهنا وأوافق إشارتك وأعمل بحساب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم أحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غليطة وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك والممتنع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كماقبله من لم يعقله بل أوضح موضع القبول والرد وموضع التوقيف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علمًا لأحاط بكل ما يحويه الفلك لأن منه مبادئ الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن الإمكان بعدًا عظيمًا والبعض الممكن منه لا يهدي إلى بعض الحكم لأن البعض الآخر المجهول قد يناقض المعلوم في حكمه ويبطل ما يوجبه فنسبة المعلوم إلى المجهول من الأحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الأسباب وكفى بذلك بعدًا انتهى، وفيه من التأييد لبعض ما تقدم من الأوجه ما فيه.وأنا أقول: إن الإحاطة بالأسرار المودعة في الأجرام لا يبعد أن تحصل بعض الخواص ذوي النفوس القدسية لكن بطريق الكشف أو نحوه دون الاستدلال الفكري والأعمال الرصدية مثلًا وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره قال في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: ومن الأولياء النقباء وهم اثنا عشر نقيبًا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد البروج الأثنى عشر كل نقيب عالم بخاصية كل برج وا أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات وما يعطي للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت ثم قال: ومنهم النجباء وهم ثمانية في كل زمان إلى أن قال: ولهم القدم الراسخة في علم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأن، والنقباء هم الذين حازوا علم الفلك التاسع والنجباء حازوا علم الثمانية الأفلاك التي دونه وهي كل فلك فيه كوكب، ويفهم من هذا القول بالتأثيرات وأنها مفاضة من البرج على النازل فيه من الكواكب.وقد تكررت الإشارة منه إلى ذلك ففي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من الفتوحات أن الله تعالى خلق في جوف الكرسي جسمًا شفافًا مستديرًا يعني الفلك الأطلس قسمه اثنى عشر قسمًا هي البروج وأسكن كل برج منها ملكًا إلى أن قال: وجعل لكل نائب من هؤلاء الأملاك الاثنى عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن نزل بهم ما تعطيه مرتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها:{وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] وهذه الخزائن تسمى عند أهل التعاليم درجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من هذه الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عالم الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض، وجعل لهؤلاء الأثنى عشر نظرًا في الجنان وأهلها وما فيها مخلصًا من غير حجاب فما في الجنان من حكم فهو تولى هؤلاء بنفوسهم تشريفًا لأهل الجنة وأما أهل الدنيا وأهل النار فما يباشرون ما لهم من الحكم إلا بالنواب وهم النازلون عليهم الذين ذكرناهم، وقال قدس سره: في الفصل الرابع إن الله تعالى جعل لكل كوكب من هذه الكواكب قطعًا في الفلك الأطلس ليحصل من تلك الخزائن التي في بروجه وبأيدي ملائكته الأثنى عشر من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب وجعلها على حقائق مختلفة. انتهى المراد منه.وله قدس سره كلام غير هذا أيضًا وقد صرح بنحو ما صرح به المنجمون من اختلاف طبائع البروج وأن كل ثلاثة منها على مرتبة واحدة في المزاج وأنا لا أزيد على القول بأن للإجرام العلوية كواكبها وأفلاكها أسرارًا وحكمًا وتأثيرات غير ذاتية بل مفاضة عليها من جانب الحق والفياض المطلق جل شأنه وعظم سلطانه ومنها ما هو علامة لما شاء الله تعالى ولا يتم دليل على نفي ما ذكر ولا يعلم كمية ذلم ولا كيفيته ولا أن تأثير كذا من كوكب كذا أو كوكب كذا علامة لكذا في نفس الأمر إلا الله تعالى العليم البصير {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] إلا أنه سبحانه قد يطلع بعض خواص عباده من البشر والملك على شيء من ذلك، ولا يبعد أن يطلع سبحانه البعض على الكل ووقوع ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم مما لا أكاد أشك فيه.وقد نص بعض ساداتنا الصوفية قدست أسرارهم وأشرقت علينا أنوارهم على أن علومه عليه الصلاة والسلام التي وهبت له ثلاثة أنواع نوع أوجب عليه إظهاره وتبليغه وهو علم الشريعة والتكاليف الالهية وقوله تعالى: {ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] ناظر إلى ذلك دون العموم المطلق أو خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه كما يقوله الشيعة، ونوع أوجب عليه كتمانه وهو علم الأسرار الإلهية التي لا تتحملها قوة غير قوته القدسية عليه الصلاة والسلام فكما أن لله تعالى علما استأثر به دون أحد من خلقه كذلك لحبيبه الأعظم صلى الله عليه وسلم علم استأثر به بعد ربه سبحانه لكنه مفاض منه تعالى عليه ولعله أشير إليه في قوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] وقد يكون بين المحب والمحبوب من الأسرار ما يضمن به على الأغيار، ومن هنا قيل: ونوع خيره الله تعالى فيه بين الأمرين، وهذا منها ما أظهره لمن رآه أهلًا له ومنه ما لم يظهره لأمر ما فلعل ما وهب له عليه الصلاة والسلام من العلم بدقائق أسرار الإجرام العلوية وحكمها وما أراد الله تعالى بها مما لم يظهره للناس كعلم الشريعة لأنه مما لا يضبط بقاعدة وتفصيل الأمر فيه لا يكاد يتيسر والبعض مرتبط بالبعض ومع هذا لا يستطيع العالم به أن يجعل الإقامة سفرًا ولا الهزيمة ظفرًا ولا العقد فلا ولا الإبرام نقضًا ولا اليأس رجاء والعدو صديقًا ولا البعيد قريبًا ولا ولا ويوشك لو انتشر أمره وظهر حلوه ومره أن يضعف توكل كثير من العوام على الله تعالى والانقطاع إليه والرغبة فيما عنده وأن يلهوا به عن غيره وينبذوا ما سواه من العلوم النافعة لأجله فكل يتمنى أن يعلم الغيب ويطلع عليه ويدرك ما يكون في غد أو يجد سبيلًا إليه بل را يكون ذلك سببًا لبعض الأشخاص مفضيًا إلى الاعتقاد القبيح والشرك الصريح، وقد كان في العرب شيء من ذلك فلو فتح هذا الباب لا تسع الخرق وعظم الشر، وقد ترك صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم عليه السلام لنحو هذه الملاحظة، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأسستها على قواعد إبراهيم» ولا يبعد أيضًا أن يكون في علم الله تعالى أظهار ذلك وعلم الناس به سببًا لتعطل المصالح الدنيوية ومنافيًا للحكمة الإلهية فأوجب على رسوله صلى الله عليه وسلم كتمه وترك تعلميه كما علم الشرائع.ويمكن أن يكون قد علم صلى الله عليه وسلم أن العلم بذلك من العلوم الوهبية التي يمن الله تعالى بها على من يشاء من عباده وأن من وهب سبحانه له من أمته قوة قدسية يهب سبحانه له ما تتحمله قوته منه، وقد سمعت ما سمعت في النقباء والنجباء، ويمكن أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام ذلك أمثالهم ومن هو أعلى قدرًا منهم كالأمير علي كرم الله تعالى وجهه وهو باب مدينة العلم بطريق من طرق التعليم ومنها الإفاضة التي يذكرها بعض أهل الطرائق من الصوفية، ويجوز أن يقال: إن سر البعثة إنما هو إرشاد الخلق إلى ما يقربهم إليه سبحانه زلفى، وليس في معرفة التأثيرات الفلكية والحوادث الكونية قرب إلى الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأل جهدًا في دعوة الخلق وإرشادهم إلى ما يقربهم لديه سبحانه وينفعهم يوم قدومهم عليه جل شأنه وما يتوقف عليه من أمر النجوم أمور دياناتهم كمعرفة القبلة وأوقات العبادات قد أرشد إليه من أرشد منهم وترك ما يحتاجون إليه من ذلك في أمور دنياهم كالزراعة إلى عاداتهم وما جربه كل قوم في أماكنهم وأشار إشارة إجمالية إلى بعض الحوادث الكونية لبعض الكواكب في بعض أحوالها كما في حديث الكسوف والخسوف السابق وأرشدهم إلى ما ينفعهم إذا ظهر مثل ذلك ويتضمن الإشارة الإجمالية أيضًا أمره تعالى بالاستعاذة من شر القمر في بعض حالاته وذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق مِن شَرّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 1-3] على ما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ويقرب في بعض الوجوه من شأنه صلى الله عليه وسلم شأنه عليه الصلاة والسلام في أمر النباتات ونحوها فبين لهم ما يحل ويحرم من ذلك وأشار منفعة بعض الأشياء من نبات وغيره ولم يفصل القول في الخواص وترك الناس فيما يأكلون ويشربون مما هو حلال على عاداتهم إلا أنه قال: {كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ} [الأعراف: 31] نعم نهى صلى الله عليه وسلم عن الخوض في علم النجوم لطلب معرفة الحوادث المستقبلة بواسطة الأوضاع المتوقف بزعم المنجمين على معرفة الطبائع سدًا لباب الشر والوقوع في الباطل لأن معرفة ذلك على التحقيق ليست كسبية كمعرفة خواص النباتات ونحوها والمعرفة الكسبية التي يزعمها المنجمون ليست عرفة وإنما هي ظنون لا دليل لهم عليها كما تقدم وصار به أرسطاليس أيضًا فإنه قال في أول كتابه السماع الطبيعي: إنه لا سبيل إلى اليقين عرفة تأثير الكواكب وحكى نحوه عن بطليموس، وكون المنهي عنه ذلك هو الذي صرح به بعض الأجلة وعليه حمل خبر أبي داود. وابن ماجه «من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر» وأما الخوض في علم النجوم لتحصيل ما يعرف به أوقات الصلوات وجهة القبلة وكم مضى من الليل أو النهار وكم بقى وأوائل الشهور الشمسية ونحو ذلك ومنه فيما أرى ما يعرف به وقت الكسوف والخسوف فغير منهى عنه بل العلم المؤدى لبعض ما ذكر من فروض الكفاية بل إن كان علم النجوم عبارة عن العلم الباحث عن النجوم باعتبار ما يعرض لها من المقارنة والمقابلة والتثليث والتسديس وكيفية سيرها ومقدار حركاتها ونحو ذلك مما يبحث عنه في الزيج أو كان عبارة عما يعم ذلك والعلم الذي يتوصل به إلى معرفة ارتفاع الكوكب وانخفاضه ومعرفة الماضي من الليل والنهار ومعرفة الأطوال والأعراض ونحو ذلك مما تضمنه علم الأسطرلاب والربع المجيب ونحوهما فهو مما لا أرى بأسًا في تعلمه مطلقًا وإن كان عبارة عن العلم الباحث عن أحكامها وتأثيراتها التي تقتضيها باعتبار أوضاعها وطبائعها على ما يزعمه الإحكاميون.فهذا الذي اختلف في أمره فقال بعضهم بحرمة تعلمه لحديث أبي داود. وابن ماجه السابق والقائل بهذا قائل بحرمة تعلم السحر وهو أحد أقوال في المسألة فيها الإفراط والتفريق، ثانيها أنه مكروه، ثالثها أنه مباح، رابعها أنه فرض كفاية، خامسها أنه كفر والجمهور على الأول ولأن فيه ترويج الباطل وتعريض الجهلة لاعتقاد أن أحكام النجوم المعروفة بين أهلها حق والكواكب مؤثرة بنفسها، وقيل: يحرم تعلمه لأنه منسوخ فقد قال الكرماني في عجائبه: كان علم النجوم علمًا نبويًا فنسخ. وتعقب هذا بأنه لا معنى لنسخ العلم نفسه وإن حمل الكلام على معنى كان تعلمه مباحًا فنسخ ذلك إلى التحريم كان في الاستدلال مصادرة، وقال بعضهم: لا حرمة في تعلمه إنما الحرمة في اعتقاد صحة الأحكام وتأثيرات الكواكب على الوجه الذي يقوله جهلة الإحكاميين لا مطلقًا، وأجيب عن الخبر السابق بأنه محمول على تعلم شيء من علم النجوم على وجه الاعتناء بشأنه كما يرمز إليه اقتبس وذلك لا يتم بدون اعتقاد صحة حكمه وأن الكواكب مؤثرات، وتعلمه على هذا الوجه حرام وبدون مباح وفيه بحث.وقيل: في الجواب أن الخبر فيمن ادعى علمًا بحكم من الأحكام آخذًا له من النجوم قائلًا الأمر كذا ولابد لأن النجم يقتضيه البتة وهو لا شك في إثمه وحرمة دعواه التي قامت الأدلة على كذبها وهو كما ترى، وكلام بعض أجلة العلماء صريح في إباحة تعلمه متى اعتقد أن الله تعالى أجرى العادة بوقوع كذا عند حلول الكوكب الفلاني منزلة كذا مثلًا مع جواز التخلف، واستظهر بعض حرمة التعلم مطلقًا متى كان فيه إغراء الجهلة بذلك العلم وإيقاعهم في محذور اعتقاد التأثير أو كان فيه غير ذلك من المفاسد وكراهته إن سلم من ذلك لما فيه من تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه ومبناه ظنون وأوهام وتخيلات، ولا يبعد القول بأنه يباح للعالم الراسخ النظر في كتبه للإطلاع على ما قالوا والوقوف على مناقضاتهم واختلافاتهم التي سمعت بعضًا منها لينفر عنها الناس ويرد العاكفين عليها كما يباح له النظر في كتب سائر أهل الباطل كاليهود والنصارى لذلك بل لو قيل بسنيته لهذا الغرض لم يبعد لكن أنت تعلم أن السلف الصالح لم يحوموا حول شيء منه بسوى ذمه وذم أهله ولم يتطلبوا كتابًا من كتبه لينظروا فيه على أي وجه كان النظر؛ ونسبة خلاف ذلك إلى أحد منهم لا تصح فالحزم اتباعهم في ذلك وسلوك مسلكهم فهو لعمري أقوم المسالك، هذا واعترض القول بإطلاعه صلى الله عليه وسلم على ما ذكر من شأن الأجرام العلوية بأن فيه فتح باب الشبهة في كون أخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب من الوحي لجواز أن تكون من أحكام النجوم على ذلك القول.وأجيب بأن الشبهة إنما تتأتى لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام رصد ولو مرة كوكبًا من الكواكب وحقق منزلته وأخبر بغيب إذ مجرد العلم بأن لكوكب كذا حكم كذا إذا حل نزلة كذا لا يفيد بدون معرفة أنه حل في تلك المنزلة فحيث لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لا يفتح باب الشبهة وفيه بحث ظاهر، وبأن علمه صلى الله عليه وسلم بما تدل عليه الأوضاع عند القائلين به ليس إلا عن وحي فغاية ما يلزم على تلك الشبهة أن يكون خبره بالغيب بواسطة علم أحكام النجوم الذي علمه بالوحي وأي خلل يحصل من هذا في نبوته عليه الصلاة والسلام بل هذه الشبهة تستدعي كونه نبيًا كما أن عدمها كذلك.وتعقب بأنه متى سلم أن للأوضاع الفلكية دلالة على الأمور الغيبية وأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما تدل عليه يقع الاشتباه بينه وبين غيره من علماء ذلك العلم المخبرين بالغيب إذا وقع كما أخبروا والتفرقة بأنه عليه الصلاة والسلام قد أوحى إليه بذلك دون الغير فرع كونه نبيًا وهو أول المسألة، واختير في الجواب أن يقال: إن أخباره صلى الله عليه وسلم بالغيب إن كان بعد ثبوت نبوته عجز غير ذلك لا تتأتى الشبهة إن أفهم أن خبره بواسطة الوحي ولا تضر إن لم يفهم إذ غاية ما في الباب أنه نبي لظهور المعجز على يده قبل أن أخبر بغيب بواسطة وضع فلكي وشاركه غيره في ذلك، وإن كان قبل ثبوت نبوته عجز غيره بأن كان التحدي بذلك الخبر ووقوع ما أخبر به فالذي يدفع الشبهة حينئذ عدم القدرة على المعارضة فلا يستطيع منجم أن يخبر صادقًا قل ذلك قتضى علمه بالأوضاع ومقتضياتها فتدبر، ثم الظاهر على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في النقباء والنجباء أن لكل من الأنبياء عليهم السلام اطلاعًا على ذلك إذ رتبة النبي فوق رتبة الولي وعلمه فوق علمه إذ هو الركن الأعظم في الفضل.ولا حجة في قصة موسى والخضر عليهما السلام على خلافه، أما على القول بنبوة الخضر عليه السلام فظاهر وكذا على القول بولايته وأنه فعل ما فعل عن أمر الله تعالى بواسطة نبي، وأما على القول بولاسته وأنه فعل ذلك لعلم أوتيه بلا واسطة نبي فلأنه لا يدل إلا على فقدان موسى عليه السلام العلم بتلك الأمور الثلاثة وعلم الخضر بها ولا يلزم من ذلك أن يكون الخضر أعلم منه مطلقًا وهو ظاهر، وعلى هذا جوز إبقاء الآية على ظاهرها فيكون إبراهيم عليه السلام قد نظر في النجوم حسا علمه الله تعالى من أحوال الملكوت الأعلى واستدل على أنه سيسقم بما استدل، ولعل نظره كان في طالع الوقت أو نحوه أو طالع ولادته أو طالع سقوط النطفة التي خلق منها والعلم به بالوحي أو بواسطة العلم بطالع الولادة؛ والاعتراض على ذلك بأنه يلزم عليه تقويته عليه السلام ما هم عليه من الباطل في أمر النجوم وارد أيضًا على حمل ما في الآية على التعريض والجواب هو الجواب، هذا وإذا أحطت خبرًا بجميع ما ذكرت لك في هذا المقام فأحسن التأمل فيما تضمنه من النقض والإبرام وقد جمعت لك ما لم أعلم أنه جمع في تفسير ولا أبرئ نفسي عن الخطأ والسهو والتقصير والله سبحانه ولي التوفيق وبيده عز وجل أزمة التحقيق وقوله تعالى:
|